بقلم/ محمد منصور
أكثر من نصف سكان العالم يُعانون من الصداع كل عام.. النساء يُصبن به أكثر من الرجال.. والأطفال بين عمر يوم و9 أعوام يُعانون أيضًا من ذلك المرض.
إعلان
قبل نحو 20 عامًا، انطلقت الحملة العالمية لمكافحة الصداع بهدف تقليل عبء ذلك المرض، تشهد تلك الحملة المُستمرة حتى يومنا هذا تعاونًا بين منظمة الصحة العالمية والمؤسسات المعنية بالمرض في جميع أنحاء العالم، وتهدف إلى معرفة حجم تلك المشكلة وطبيعتها، وإقناع الحكومات وصانعي السياسات الصحية بأن الصداع أولوية تستحق الرعاية المُكثفة.
والآن، تؤكد تلك الحقيقة مراجعةٌ شاملة جديدة منشورة في دورية “الصداع والألم”، بعد أن عرضت مجموعة من الأرقام الصادمة والنسب المُرعبة التي تُشير إلى حجم ذلك المرض وانتشاره.
إذ تقول الدراسة إن الصداع بشكل عام يُصيب نحو 52٪ من سكان العالم كل عام، وفي حين يُصيب الصداع النصفي 14٪ من سكان العالم، ترتفع تلك النسبة في صداع التوتر لتصل إلى نحو 26٪.
أرقام متضاربة
المراجعة الجديدة التي اعتمدت على بيانات مُستقاة من أكثر من 350 دراسةً علميةً تؤكد ضرورة التعامل مع الصداع على نحوٍ أكثر جدية؛ “فالرسالة التي يجب أن يعلمها القاصي والداني هي أن الصداع ليس اضطرابًا بسيطًا على الإطلاق”، كما يقول أستاذ طب الأعصاب في الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا ورئيس الوحدة الاستشارية النرويجية للصداع “لارس جاكوب ستوفنر”.
قبل أكثر من 40 عامًا، بدأ “ستوفنر” بحثه حول الصداع، أجْرت مجموعته العديد من الدراسات حول علاج الصداع النصفي والعنقودي، كما طورت المجموعة علاجات يُمكن استخدامها للوقاية من الصداع النصفي، وحين انطلقت الحملة العالمية لمكافحة الصداع، تولت جامعته مهمة التنسيق لتلك الحملة، يقول “ستوفنر” : إن المرء قد يقضي عمره كله في دراسة تلك المشكلة المزمنة، “التي لا تبرح أدمغة نصف البشر، ولا تحظى باهتمام صانعي السياسات الصحية”.
يُعد الصداع من أكثر الحالات انتشارًا وإعاقةً في جميع أنحاء العالم، ومع ذلك، يمكن أن تختلف الدراسات حول انتشار الصداع اختلافًا كبيرًا في طرقها وعيناتها، مما قد يؤثر على كيفية تقدير المعدلات العالمية للصداع، وحتى في تقدير مدى انتشار أنواعه المختلفة.
أنواع الصداع
يقول “ستوفنر” إن للصداع أنواعًا عديدةً تختلف أعراضها بشكل شديد التبايُن؛ فالصداع قد يأتي على جانب واحد من الرأس، أو على الجانبين، أو قد ينتشر في الرأس كلها، كما أن الصداع يُمكن أن يحدث فجأة، أو يتطور تدريجيًّا، كما يُمكن أن يستمر فترة تقل عن نصف الساعة، وقد يستمر عدة أيام.
ميزت الدراسة بين نوعين أساسيين من الصداع، هما الصداع النصفي وصداع التوتر، والصداع النصفي -المعروف أيضًا باسم “الشقيقة”- يحدث على شكل ألم نابض على جانب واحد من الرأس، وغالبًا ما تصحبه مجموعة من الأعراض الأخرى كالقيء وحساسية الضوء والاضطرابات البصرية أو التنميل وصعوبة التحدث، وقد يُسبب الصداع النصفي ألمًا شديدًا لساعات، وقد يمتد ذلك الألم عدة أيام.
أما صداع التوتر فيسبب ألمًا خفيفًا إلى متوسط في الرأس، وهو أكثر أنواع الصداع شيوعًا، ولا تُعرف أسبابه على وجه الدقة.
في هذه الدراسة أجرى الباحثون مراجعة لـ357 بحثًا من عام 1961 إلى نهاية عام 2020 لتقدير الانتشار العالمي للصداع.
اهتمت غالبية الأبحاث التي تم النظر فيها بالبالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و65 عامًا، ولكن بعضها شمل أيضًا المراهقين والأطفال حتى سن 5 سنوات، وكبار السن فوق 65.
وبناءً على دراسة سابقة من عام 2007، قامت خلالها المجموعة البحثية نفسها بقياس الاختلافات في الأساليب عبر الدراسات التي عملوا على مراجعتها، استخدم الباحثون علوم النمذجة لبحث هذه الاختلافات في الأساليب، ومعرفة كيفية ارتباطها بتقديرات انتشار الصداع.
جزء من الحياة
واستنادًا إلى المنشورات البالغ عددها 357 التي تمت مراجعتها، قدر المؤلفون أن 52٪ من سكان العالم قد عانوا من اضطراب الصداع خلال عام واحد؛ إذ أبلغ 14٪ عن صداع نصفي، و26٪ أبلغوا عن صداع من نوع التوتر، و4.6٪ أبلغوا عن صداع لمدة 15 يومًا أو أكثر من أيام الشهر، من بين 12 دراسة أبلغت عن الصداع خلال اليوم الأخير، قدر المؤلفون أن 15.8٪ من سكان العالم يعانون من الصداع في كل يوم، وتقريبًا نصف هؤلاء الأفراد أبلغوا عن صداع نصفي (7٪).
ووجد الباحثون أن انتشار اضطرابات الصداع لا يزال مرتفعًا في جميع أنحاء العالم، وقد يؤثر عبء الأنواع المختلفة على كثير من الناس، كما أكدوا ضرورة السعي والعمل لتخفيف هذا العبء من خلال الوقاية والعلاج الأفضل.
كانت جميع أنواع الصداع أكثر شيوعًا عند الإناث منها عند الذكور، وأبرزها الصداع النصفي (17٪ عند الإناث مقابل 8.6٪ عند الذكور) والصداع لمدة 15 يومًا أو أكثر شهريًّا (6٪ للإناث مقابل 2.9٪ عند الذكور).
وما من تفسير لانتشار الصداع بتلك النسَب الكبيرة، يقول “ستوفنر” إن الكثير منا يميل إلى الإصابة بالصداع؛ فـ”بطريقة ما هو جزء من الحياة”، لكن “هذا لا يعني أنه لا يمكننا فعل أي شيء حيال ذلك”، فهناك عدة طرق يمكننا من خلالها تحسين الوضع، سواء عن طريق تغيير السلوك أو من خلال العلاجات الطبية وغير الطبية.
ويقول “ستوفنر” إن هناك العديد من العوامل التي تؤثر على زيادة نوبات الصداع، مثل الكثير من التوتر، وعدم الانتظام في النوم وفي تناول الوجبات، والجفاف، والإفراط في الضوء والضوضاء الساطعة، وتلوث الهواء، وقلة النشاط البدني، وزيادة الوزن، وكذلك الإفراط في تناول المسكنات مدة طويلة، “كلها عوامل تجعل الأمر أسوأ، وتجنُّب مثل هذه الأشياء يمكن أن يحسِّن الوضع، أعتقد أنه يمكننا أيضًا إضافة الخدمات الصحية السيئة لمرضى الصداع إلى القائمة”، كما يقول “ستوفنر”.
توثيق ضروري
وأصبح توثيق عبء اضطرابات الصداع أمرًا مهمًّا للغاية، فبعد أن لفتت الانتباه إليها الحملة العالمية ضد الصداع من خلال دراسة الصداع كجزء من تقرير العبء العالمي للأمراض، تم الكشف عن اضطرابات الصداع باعتبارها ضمن الاهتمامات الرئيسية للصحة العامة على مستوى العالم وفي جميع البلدان ومناطق العالم، فوفق تقرير العبء العالمي للأمراض 2019، احتل الصداع النصفي وحده المرتبة الثانية بين أسباب الإعاقة، والأول بين النساء دون سن الخمسين، وعلى الرغم من أن نسبة صغيرة فقط من اضطرابات الصداع تحتاج إلى تدخلات متخصصة، إلا أن بعض أنواع الصداع منهكة للغاية ولها تأثير كبير على نوعية حياة الفرد، كما تفرض تلك المشكلة تكاليف باهظة على الرعاية الصحية وبشكل غير مباشر على الاقتصاد بشكل عام، ويمكن علاج الغالبية العظمى بشكل فعال من قِبل طبيب رعاية أولية أو اختصاصي عام بتشخيص سريري صحيح، خاصةً أن اضطرابات الصداع الأولية غير معروفة السبب -الصداع النصفي وصداع التوتر والصداع العنقودي- تُمثل ما يقرب من 98٪ من جميع أنواع الصداع.
ويقول الباحث في مجال الأعصاب بـمايوكلينيك “ديفيد كابوبيانكو”، الذي لم يشارك في الدراسة، وهو متخصص أيضًا في علاج الصداع: إن تلك المشكلة -على الرغم من بساطتها في كثير من الأحيان- قد تكون خطيرة ومُهددة للحياة، “للأسف يتعامل المجتمع مع الصداع بكثير من التهاون، وتكمن أهمية تلك الدراسة في رفع الوعي حول تلك المشكلة الخطيرة”.
حقق المؤلفون أيضًا في العلاقة بين الطرق المنهجية التي تستخدمها الدراسات المختلفة وتقديرات الصداع.وقالت الدراسة إن بعض الدراسات السابقة لم تُقدر حجم المشكلة على النحو الصحيح.
فبعض المقاييس المختلفة التي نظر إليها المؤلفون، مثل أسئلة الفحص، وحجم العينة، وسنة النشر، وكيفية تطبيق معايير التشخيص، من بين أمور أخرى، أوضحت وجود 29.9٪ من التبايُن في تقديرات الصداع النصفي، وأقل بالنسبة لاضطرابات الصداع الأخرى.
حتى الأطفال
وفق الدراسة، حتى الأطفال ما بين عمر يوم إلى 9 سنوات يشعرون بالصداع، تقول الدراسة إن 42.7 من الأطفال في تلك الفئة العمرية يُصابون بالصداع كل عام.
وبالنسبة للتوزيع الجغرافي لنسَب هؤلاء الذين يُصابون بالصداع كل عام، يتربع الشمال الأفريقي والشرق الأوسط على رأس القائمة الخاصة بنسب المُصابين بنسبة متوسطة قدرها 60.5٪ من إجمالي عدد السكان، في حين تأتي منطقة جنوب شرق آسيا في ذيل القائمة بنسبة 38.7٪ من إجمالي عدد السكان.
وبالنسبة للفئة العمرية، فإن هؤلاء الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و19 هم أكثر المصابين بالصداع بنسبة متوسطة 57.9٪، في حين يحتل هؤلاء الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا ذيل القائمة بنسبة متوسطة تبلغ 40.2٪.
يقر المؤلفون أيضًا بأن غالبية المنشورات التي قاموا بمراجعتها جاءت من بلدان مرتفعة الدخل ذات أنظمة رعاية صحية جيدة، لذا فقد لا يعكس ذلك كل دولة.
ومن شأن إجراء مزيد من التحقيقات في البلدان المتوسطة والمنخفضة الدخل أن يساعد في تقديم تقدير عالمي أكثر دقة.
ورغم ذلك، وللحصول على بيانات من أكبر عدد ممكن من البلدان، استخدم المؤلفون مجموعةً واسعةً من الدراسات التي أخذت عينات من المشاركين خارج الإعدادات السريرية، مثل موظفي الشركة وطلاب الجامعات وموظفي المستشفى، من بين آخرين،
وتشير البيانات إلى أن معدلات الصداع والصداع النصفي قد تزداد، ويقول الباحثون إنه قد يكون من المهم في المستقبل تحليل الأسباب المختلفة للصداع التي تتنوع عبر المجموعات بهدف الوقاية والعلاج بشكل أكثر فاعلية.
استنتج المؤلفون أن هذه الدراسة توفر خطًّا أساسيًّا في كيفية تقدير معدلات الصداع في جميع أنحاء العالم، ويمكن أن تبني الأبحاث المستقبلية على ذلك لتحسين طرق قياس نجاح التدخلات والعلاج.
يقول “ستوفنر”: إن الصداع يؤثر على حياة الملايين بطريقة عائقة تمامًا، “ويحتاج ذلك المرض إلى تدخل عاجل على المستوى العلمي والسياسي إذا ما أردنا حل المشكلة.. المشكلة التي توجع رأس نصف العالم”.