غرائب خلف القضبان”.. انتقام إلهى بعد براءة القانون


عاش طفولته وصباه وشبابه محروماً من دفء الأسرة وحنان الأبوين..فقد مات أبواه فى حادث سيارة وتركاه طفلاً.. فتجرع مرارة اليتم وهو صغير، حرم بفقدهما ينابيع الحنان ومرافىء الأمان التى تعين الإنسان على مواجهة الحياة، لكنه لم يفقد إصراره وعزيمته على شق طريقه.

ساق الله له رجلاً من أقربائه وقف بجانبه وتبناه وساعده حتى أكمل دراسته وحصل على بكالريوس الهندسة، ووقف فى طابور الانتظار فى قطار التعيين من قبل القوى العاملة، ورأى أن كل المنتظرين الذين سبقوه فقدوا الأمل فى الحصول على عمل.

كان طموحه فى الحياة بلا حد فانضم إلى أسراب الطيور المهاجرة التى تحفظ على أرض النفط والبترول، حيث فرص العمل متاحة للجميع، وتحمل عذاب الغربة والبعد عن الأهل والاصدقاء والأحباب سعياً وراء المال.

وامتدت غربته عشرين عاماً أفنى خلالها زهرة شبابه فى العمل الذى وصل فى الليل بالنهار حتى استطاع أن يجمع ثروة كبيرة.. عاد بها إلى أرض الوطن وتذكر فى غمرة غربته وكفاحه أنه قد نسى نفسه، وبدأ يشغله ويؤرقه حرمانه الطويل من متع الحياة فلم يعرف عالم النساء ولا خفق قلبه بحب، فقد تعمد أن يغلق بابه حتى لا يكون فيه فراغ لشىء إلا عمله وجمع المال.

التقى بها رآها فتاة جاوزت سن العشرين بقليل.. حباها الله جمالاً يدير الرؤوس، فسعى للتعرف عليها وتودد إليها كثيراً وتكرر اللقاء كان سخياً معها فى “البقشيش” الذى يقدمه مع حساب طلباته.

طلب لقاءها بعيداً عن العمل، حكى لها قصة حياته، طفولته، سنوات عمره التى عاشها يعمل حتى جمع ثروة كبيرة، وعن حرمانه من العطف والحنان، وبحثه عن إنسانة تعوضه ما فات.. تكون بمثابة الأم والصديقة

اتفقت معه ورحبت به، وأفهمته أنها معجبة بكفاحه ومثابرته وإصراره على النجاح رغم الظروف الصعبة التى أحاطت به، فبددت مخاوفه التى كانت تستبد به من فارق السن بينهما،وأعطته الأمان والثقة، وأقنعته أنها أكبرت فيه رجاحة عقله وحسن تفكيره. وأحبت فيه رزانته وخبرته فى الحياة، فلا وجه للمقارنة بين كل هذه الميزات التى يفتقدها الشباب فى مثل سنه.

تم الزواج بمباركة الأهل والعشيرة، وانتقلت الزوجة إلى شقته الفاخرة المطلة على النيل، عاشت فى ظله الحياة المترفة، ارتدت الملابس الغالية المستوردة.. وتحلت بالمجوهرات الثمينة، واستعملت فى تنقلاتها أحدث السيارات التى اشتراها لها..

ولكن السعادة لا تدوم.. فقد أصيب فى عموده الفقرى أثناء عمله، فأقعده المرض الفراش، وأحس بتغيير سريع فى معاملتها له.. لم تقف بجانبه فى مرضه الذى امتد لأكثر من ثلاث سنوات.

أطلقت يدها فى أمواله التى وضعها فى البنوك بعد أن حصلت منه على توكيل عام يتيح لها صرف ما تريد، وأطلقت لنزواتها ورغباتها العنان..تسهر حتى ساعة متأخرة من الليل، فإذا سألها أجابته ساخرة بأنها شابة.. وأنها لن تبقى شبابها أسيرة مرضه، كان يحبس مرارته وتعاسته وعجزه فى صدره.. لا ينام من النهار والليل إلا قليلاًرغم الأدوية والمهدئات والمنومات التى كان يتعاطها.. وفى الوقت الذى كان يسبح فى خياله، يستعرض تاريخ حياته ولحظات السعادة التى عاشها فى بداية زواجهما.. كانت تنبعث من شقة جاره خريج معهد الموسيقى الذى سكن حديثاً إلى جوارهما، وكان يعيش وحيداً فى شقته بعد أن أتم دراسته فى المعهد، وعاش يقضى ليله ونهاره يعزف ويلحن ويغنى.

وأحس بان زوجته بدأت تطيل المكوث فى المنزل وعزفت عن حياة الشهرة وهى تمعن فى السماع إلى صوته الدافىء وموسقاه وألحانه الحالمة.

ذات ليلة استيقظ من النوم، وقد استبد به الأرق ولم تفلح فى التغلب عليه جرعة المنوم الزائدة التى تناولها فلم يجد زوجته بغرفة النوم.. بحث عنها فى كل أرجاء الشقة فلم يجدها، احتبس فى داخله الممزق ونفسيته المحطمة هذا الامر.. وبدأ يراقبها على حساب أعصابه المنهارة وعيونه الساهرة التى لا تنام.

اكتشف الزوج أن زوجته تتسلل إلى هذا الشاب جارهما كل ليلة، وقد تزينت بأزهى وأبهى ملابس النوم وتعطرت بأغلى العطور وأنفذها..بعد أن تتأكد من تناوله جرعة كبيرة من المنوم كانت تقدمها له فى كوب اللبن دون أن يدرى، لاضافة إلى الأدوية التى كان يتناولها ومن بينها دواء منوم أخر.

ومنذ أن اكتشف خيانتها وتأكد منها طار النوم من عينيه إلى الأبد، ولم تفلح كل المنومات فى أن يغمض له جفناً واستبدت الأفكار السوداء بفكره المثقل، وتزايدت حيرته.. ماذا يفعل؟..

وفجأة عثر على هذا الزوج مقتولاُ فى غرفة مكتبه.

تضمنت مذكراته التى كان يسجلها ويحتفظ بها فى درج مكتبه تفاصيل حياته على النحو السابق منذ أن تلقى صدمة اليتم وهو صغير حتى واجه صدمة الحياة فى شيخوخته على يد زوجته الخائنة.

وأضاف فى مذكراته أنه يشعر أن نهايته فى الحياة قد قربت بعد أن واجهها بخيانتها فصدمته فى مشاعره وأحاسيسه، وكان جوابها فى منتهى الفجر والبجاحة، إذ طلبت الطلاق منه.. عايرته فى رجولته وأنها وجدت ضالتها فى هذا الشاب الذى أخرجها من ذلك القبر، وأنه فوجىء بما هو أكثر من ذلك بما لم يكن يتوقع..هددته زوجته بالقتل إن لم يستجب لمطلبها بالطلاق، ويفتح لها الباب على مصراعيه..باب الخيانة..

عثرت النيابة العامة أيضاً بالإضافة لمذكرات الزوج بشريط مسجل يتضمن ما حوته المذكرات، كما عثر وكيل النيابة المحقق على بلاغ للنيابة العامة يتهم فيه زوجته بالزنا مع هذا الشاب والاستيلاء على أمواله.

ويروى أبو شقة.. وبدأت التحقيقات، وتبين أن الخادمة كانت موجودة بالمسكن وقت الحادث فاستدعيتها وسألتها.. فأكدت ما كانت تراه من تصرفات قاسية وحادة فى معاملة المرأة لزوجها بعد مرضه، وأكدت أن الزوجة قد تخلصت من زوجها بعد أن طلبت الطلاق ورفض وأنها رأتها بأم عينيها وهى تدس له السم فى “طبق البامية” الذى قدمته له للغذاء فى مكتبه.

ولكن الشىء المحير أن الزوجة كانت غارقة فى البكاء مصرة على الإنكار نافية أنها قتلته، واعترفت بحبها لهذا الشاب، ” نعم أحببت ذلك الشاب الموسيقى، فقد رأيت فيه فتى أحلامى..أعجبت بحلاوة صوته وطلاوة حديثه..كنت أتمنى أن أرتبط به إلى الأبد ليعوضنى أنوثتى التى افتقدتها مع هذا الكهل..طلبت الطلاق من زوجى لأرتبط به ولكنه رفض”، وأقسمت أغلظ الأيمان بأنها لم تقتله ولم تخنه.

تم حبس الزوجة على ذمة التحقيقات، وتم صدور قرار بتشريح جثة الزوج لبيان ما إذا كانت به إصابات والألة المستخدمة فى إحداثها وعما إذا كانت حيوية من عدمه، وكذلك بيان ما إذا كان تناول مادة سامة ونوعها وأثرها فى إحداث الوفاة، وهل كانت الوفاة نتيجة هذه المادة أم الإصابة التى فى جبهته.

كانت المفاجأة التى حملتها التقارير الطبية..لقد ثبت من تقرير التحاليل أن أظافر المتهمة والخادمة خالية من أى مواد سامة، فى الوقت الذى ثبت فيه من تقرير الصفة التشريحية لجثة المجنى عليه، وتحليل أحشائه أنه تناول فى مشروب القهوة مادة سامة شديدة المفعول وأنها هى سبب الوفاة.

ولكن ما أثار الدهشة هى أقوال الخادمة التى تعتبر الدليل القولى قبل الزوجة أن معدة المجنى عليه كانت خالية من الطعام، بعد أن أكدت أن الزوجة هى التى دست السم فى طبق البامية.

هنا أيقنت أن الخادمة كاذبة وأن هناك سرًا وراء هذا الكذب لابد من كشفه إذ إن حقيقة الحادث تكمن فى كشف هذا السر.

استدعيت الخادمة، وواجهتها بأكاذيبها وأن عليها أن تدلى بالحقيقة إذ إنها بهذه الأقوال الكاذبة ترتكب جريمة تضليل العدالة.. بل إن شكوكاً تقترب من اليقين أنها وراء مقتل المجنى عليه.

انهارت الخادمة مؤكدة أنها ستقول الحقيقة ولن تخفى شيئاً.. قائلة:” الزوجة برئية إنها لم تقتله.. لقد انتحر الزوج..هو الذى وجد فى هذا الانتحار خلاصاً لحياته وإنهاء لألامه ووضع حدً لعذابه..ولكن أيترك زوجته تنعم بماله الذى أفنى عمره فى جمعه وتتزوج ذلك الشاب الموسيقى لينعم بماله ويسعد بجمالها؟..فعليه أن يحطمها كما حطمته.. أن يقضى عليها كما قض عليه، هى وعشيقها أن يسلمها بيديه إلى حبل المشنقة.. فقد قتلت فيه كل شىء”.

واستطردت الخادمة قائلة:” نعم إنه قرر أن ينتقم من زوجته وعشيقها الشاب الموسيقى، أحس بأن حياته باتت معدومة، وهو والميت سواء.. فأعطانى مبلغاً كبيراً من المال، ووضع السم أمام عينى فى فنجان القهوة وارتشفه أمامى بعد أن اتفق معى على اتهام الزوجة بوضع السم، والتأكيد على خيانتها لزوجها حتى لا ترث منه.

وبتحليل أظافر المجنى عليه تم التأكد من حديث الخادمة..وكانت مفاجأة أخرى الشاب الموسيقى عاد من الخارج بعد غياب ما يقرب من شهرين وتوجه على الفور للنيابة ليدلى بحديثه قائلاً:”نعم كانت تتردد على فى شقتى المجاورة عندما يخلد زوجها للنوم.. كانت تشكو لى قسوة حياتها مع الرجل الذى أصبحت بالنسسبة له ممرضة لا زوجة..وبدأ نبض الحب يتسلل إلى قلبها ويتملك من مشاعرها”.

مسطردا:”وذات مرة طلبت منى فجأة وبصراحة وإصرار لا يخالجه أدنى شك أن أساعدها فى التخلص من زوجها فى قتله لرفضه طلاقها.. فرفضت تمامً أن أشاركها فى فكرها.. وأحسست لحظتها أننى كنت مخدوعاً فيها.. رأيت فى عينيها لأول مرة الخسة والندالة والخيانة..واتخذت قراراً بينى وبين نفسى لا رجعة فيه أن أترك الشقة وأن أسافر للغناء فى إحدى الدول العربية تلبية لرغبة متعهد طلب منى ذلك.

لم يكن أمامى وقد ثبتت براءتها فى التهمة الموجهة إليها بقتل زوجها إلا إخلاء سبيلها، ولمحت الفرحة بلا حدود تكسو وجهها.. لقد ثبتت براءتها وها هى تخرج للحياة بلا قيود وأصبحت تمتلك ثروة كبيرة.

فى صباح اليوم التالى مباشرةً..حضر إلى ضابط المباحث الذى شارك البحث فى قضية القتل ليعرض على- والابتسامة تكسو وجهه- محضراً لقضية جديدة.

فسألته عن سر ابتسامته فابتدرنى قائلاً- “عارف سيادتك الست اللى أفرج عنها امبارح بعد ما ثبت أن جوزها انتحر وإنها مقتلتهوش.. فقولت..”أيوة .. وإيه علاقة ده بالمحضر اللى معاك دلوقتى…

فقال..”المحضر ده خاص بيها”.. وبسرعة أمسكت المحضر وأدركت على الفور سر ابتسامته.. لقد انقلبت بها سيارتها الفارهة وسقطت بها فى النيل وبجوارها شاب مخمور لقى نفس المصير نفسه.. كانت تنطلق بها كالمجنونة بعد سهرة صاخبة نفضت بها عن نفسها غبار الماضى..

لقد أفلتت من حبل المشنقة مرتين ولكنها لم تفلت من عقاب السماء.. إنها حقاً ” عادالة..السماء”..

Exit mobile version